تقنية الفراغ الشعري

تقنية الفراغ الشعري
الهيأة التي تتخذها القصيدة العربية الكلاسيكية غالباً ما تكون مكونه من قسمين يسمى الأول صدراً، والثاني عجزاً يفصل بينهما فراغ أو بياض أعتاد المؤلفون – فيما بعد- على رسمه حفاظاً منهم على شكلانية القصيدة العربية ليس إلا:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
................صدر...............بيـــاض ...........عجز................
إلى أن توصلت الدراسات الصوتية مؤخراً في قراءتها للفراغ أو الفراغية في القصيدة العربية في أنها ((تمثل لحظة تنفس إيقاعي ضرورية لها))(40)، ويبدو إن هذه اللحظة ضرورية للشاعر كما هي للقصيدة، فالشاعر – في أغلب الأحيان- يلقي القصيدة شفاهاً وفي احياناً أخر تكون إرتجالاً فيكون الشاعر بحاجة إلى نفس شعري يمثل وقفة تهيئه للانتقال من قسم إلى قسم آخر فيها.
وإذا إنتقلنا إلى قصيدة النثر فالفراغ فيها هو إفساح فجوة بين مبدأ الكلمة والكلمة، أو بين الكلمة والكلمة التي تعقبها، أو بين المقطع والمقطع الذي يعقبه، فهو ضرورة مهمة من ضروريات هذه القصيدة لأنه- يمثل مكاسب أخرى في شعريتها وهو يسهم إسهاماً مباشراً في تقويمها.
وأكثر ما نجد هذه التقنية في نتاجات (فاضل العزاوي، محمد الماغوط، وخزعل الماجدي، وأدونيس) في مرحلة شعر السبعينيات حيث نجد الشاعر العراقي فاضل العزاوي يفتح فراغاً في قصيدة ( قرية الأطفال) إذ يقول:
قالوا: فاخرج من قرؤيتنا وتعلم
...........أن تشهد بين عيون الاطفال
إنسانك يا عبد الله.(41)
وكأن الشاعر هنا أراد أن يخلق خطاباً مفعماً بالمحادثة بين عبد الله وبين الآخرين الذين دأبوا على توجيه الأوامر له، فالقارئ يشعر عندما ينظر للفراغ بأن عبد الله هو من قام بملئ الفراغ.
في حين نجد الشاعرة (ليلى السّايح) في قصيدة (العشاق القدامى) تفتح فراغاً منقطاً متكون من ست نقاط عندما تقول:
للغيوم سبعة فوائد
إحداها تقول:
إن الأرض لم تعد صالحة للسكنى
أما البقية، فلا تقول شيئاً
******.(42)
وكأن الشاعرة أرادت هنا أن تكرر مقطع (فلا تقول شيئاً) ست مرات حتى يبلغ عدد فوائد الغيوم سبعة كما ذكرتها في بداية القصيدة دفعاًً منها للسأم والحشو الذي من الممكن أن ينشأ إذا ما عمدت لكتابتها.
فيما نجد إن الشاعر (محمد الماغوط) يفتح فراغات عدّة في قصيدة (خريف الأقنعة) عندما يقول:
أيّها المارة
إخلوا الشوارع من المارة
والنساء المحجبات............
سأخرج عارياً
وأعود إلى غابتي
.....................
.....................
.....................
محال..........محال
أن أجعل نفسي إلا نهراً في صحراء
أو سفينة في حجر
أو ......... قرداً في غابة
يقطف الثمار الفجة
ويلقي بها على رؤوس المارة.(43)
فهو عمد لفتح فراغات عدّة : الأول تأكيداً منه على التسلسل والاستمرار في تعداد النساء اللائي يمشين في الطرق وتحذيرهن من أنه سوف يخرج (عارياً)، أما الثاني: فقد أراد أن يشبه نفسه بمشبهات عدّة ابتدأها بالتدريج من النهر إلى السفينة إلى ... متروك للقارئ هو من يحدد ما يشاء، أما الثالث: فقد فتح (الماغوط) فراغاً بين المقطع والمقطع وهو ناتج من إحساس الشاعر بضرورة أن يكون في هذه القصيدة مثل هذا الفراغ للتفكير ملياً في الأمر الذي أقدم عليه الشاعر أصحيح هو أم خطا؟
فيذهب لتدارك الأمر بسرعة في المقطع الآخر (محال........محال) فضلاً عن ذلك فالفراغ يترك للقارئ أيضاً مجالاً مفعماً بالتفكير للمشاركة مع الشاعر من جهة وإبداء التفاعل مع القصيدة من جهة أخرى.
كما ونجد الشاعر العراقي (فاضل العزاوي) يتح فراغاً في مطولته (الصحراء) عندما يقول:
آخذ مسماراً
أغرسه في عنقي
بهدوء
بهدوء
أشعل ناراً منّي وأبقى ملتهباً
يذبل وجهي
يغمى جسدي
كل الأشياء فرت
بهدوء
بهدوء
...............
...............
...............
نولد أحياناً وفي فمنا خبز للفقراء.(44)
فالشاعر هنا يحاول أن يعطي للفراغ أكثر من مدلول، فقد أراد أن يعطي لهذا الفراغ بُعداً صوتياً يتمثل في التعب الجسدي الذي أصاب المصلوب نتيجة الصلب إلى أن يصل إلى البؤرة التي أراد الشاعر أن يصل إليها وهي: (نولد أحياناً وفي فمنا خبز للفقراء)، هذا وربما أراد أن يعطي القصيدة بُعداً موسيقياً باستخدام الموسيقى الخليلية والمتمثلة ببحر المتدارك بالتفعيلة(فَعِلُنْ)المخبونة(45)، ليدفع السأم عن القارئ أثناء ترديد هذه الكلمة في الفراغ المذكور.
هذا فيما نجد الشاعر (حميد سعيد) في قصيدة (الحضور) يعمد لان يفتح فراغاً شعرياً (حوارياً) عندما يفتح فراغاً بين الفقرة والفقرة التي بعدها عندما يقول:
أدخلوا أن هذي الكروم لكم
وهي تفرقكم...... وتحس بشكل المخاطر
علمها الموت كل الذي تعرفون
فإذا نزلت كي تظم الصغار إلى صدرها .....
وتقبلهم وتشمهم....
..........................بلغوها تحيات آبائكم
....................
....................
....................
إن ذاكرة الكروم مسكونة بالوحدة.(46)
فالشاعر مؤمن على إن هذا الفراغ هو لخلق لغة ثانية تكون من مهمة القارئ لا الشاعر ابتعاداً منه عن التقريرية الواضحة التي من الممكن أن تضر بشاعرية القصيدة.

مشكور اخي علاء

يعطيكي العافيه اخي علاء
تقبل مروري

شكرا لمروركم نور عبدو