** عــام هجري جديد ..وحياة جديدة **

لحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:


ما هي خطتك لهذا العام...؟


بداية كل عام - كما هي عادة الناجحين في الحياة - نمسك بالأقلام ونبدأ بوضع الخطط للسنة الجديدة القادمة نحدد الاحتياجات والمستلزمات (ملابس، أثاث، مقتنيات، نثريات، وغيرها وغيرها...).


نوازن فيها بين مصروفاتنا وإيراداتنا المتوقعة، وهذه الطريقة تسهل علينا كثيرًا أثناء العام، ويتم ذلك بتقسيم السنة إلى شهور والشهور إلى أسابيع، والأسابيع إلى أيام، وهكذا نخطط لأعمالنا بشكل يومي ؛ لنتمكن من تحقيق أهدافنا بشكل علمي مدروس ؛ فإدارة الوقت من أهم أسباب نجاح أي عمل، فالوقت هو الحياة.


وقد أدرك العلماء أهمية الوقت، فأكدوا أن تخطيط ساعة يوفر أربع ساعات، وهكذا يمكننا بهذه الموازنة أن نحقق خلال سنة واحدة أهدافًا قد يستغرق تحقيقها أربع سنوات على الأقل.


وعندما أمسكت بالمفكرة لأكتب خطتي السنوية لهذا العام خطر ببالي فكرة جديدة، لماذا أضع لحياتي خطة يستغرق تحقيقها سنة، وأنا لا أضمن عمري لحظة واحدة؟!


وبالرغم من أن التخطيط للحياة واجب ديني ومطلب شرعي إلا إنني تساءلتُ: هل أسعى للتخطيط سنة كاملة لدار الفناء، ولا أكلّف نفسي أن أضع خطة لدار البقاء الأبدي؟!!


فقلت في نفسي: لماذا لا تكون خطتي هذا العام هي الجنة؟!


فما أعظمها من منزلة! وما أسماه من هدف!


وقفة للمحاسبة... مع قطار العمر


قال أبو الدرداء: ابن آدم طأ الأرض بقدمك، فإنها عن قليل تكون قبرك، ابن آدم إنما أنت أيام فكلما ذهب يوم ذهب بعضك(1).


فيا أبناء العشرين! كم مات من أقرانكم وتخلفتم؟!


ويا أبناء الثلاثين! أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم؟


ويا أبناء الأربعين! ذهب الصبا وأنتم على اللهو قد عكفتم!!


ويا أبناء الخمسين! تنصفتم المائة وما أنصفتم!!


ويا أبناء الستين! أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون، لقد أسرفتم!!!


الأعمار تطوى، والآجال تفنى، والوقت أثمن ما أضاعه الإنسان، ومن عرف أهمية الوقت وحقه، فقد أدرك قيمة حياته، فما من يوم ينشق فجره إلا وحاله ينادي: يا ابنَ آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود منى فإني لا أعود...


اليوم سنودع عامًا هجريًا ونبدأ عامًا آخر، انقضت به صفحة من صفحات حياتنا، ولا ندري عما طويناها، هل سودناها بسوء الزلل، أم بيضناها بصالح العمل...


اليوم سينتهي عام هجري ويبدأ عام هجري جديد فعلينا أن نسارع في الخيرات والطاعات لنختم العام على خير، ونقفل الحساب الختامي بأرباح زائدة ونجعله كرصيد افتتاحي لسنة جديدة كلها طاعات وقربات إلى الله.


وأول ما يجب أن يلفت انتباهنا السرعة العجيبة التي مرت بها هذه السنة، فبالأمس القريب كنا نستقبل هذا العام، وها نحن وبهذه السرعة نودعه، وفي هذا دليل واضح على سرعة انقضاء الأعمار وفناء الدار، كما يقول المولى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ واختلاف اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}(2).


فشريط الحياة سريعاً ما ينتهى ما بين الولادة والكهولة، والشباب والشيخوخة، والهرم ثم الموت، وكأنها غمضة عين.


وحينما ينقضي عام من حياتنا ويدخل عام جديد، لا بد لنا من وقفة طويلة... نحاسب بها أنفسنا على الماضي وعلى المستقبل من قبل أن تأتي ساعة الحساب


وقفة محاسبة: نندم فيها على ما ارتكبنا من أخطاء وعثرات...


وقفة محاسبة: نستقبل فيها ما هو آت...


وقفة محاسبة: ننهض فيها ونستدرك ما فات.


قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(3).


وقال صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(4).


قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: «اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيـرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟!»(5).


وكتب سيدنا عمر رضي الله عنه إلى بعض عماله في الأمصار: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة"(6). وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى: «المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة»(7).


معنى المحاسبة وأهميتها...


قال الماوردي: «المحاسبة أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في الـمستقبل»(8).


وغياب محاسبة النفس نذير غرق الأمة لأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً، لا يتوقع حساباً من رب قاهر أو من ولي حاكم أو من مجتمع محكوم أو من نفس لوامة، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}(9).


وفوائد محاسبة النفس أكثر من أن تعد، ومن أهمها ما يلي:


1- الاطلاع على عيوب النفس، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته.


2- التوبة والندم وتدارك ما فات في زمن الإمكان، والاجتهاد في الطاعة وترك العصيان لتسهل عليه المحاسبة فيما بعد.


3- معرفة حق الله تعالى وانكسار العبد وذلته بين يديه تبارك وتعالى، فإن أصل محاسبة النفس هو محاسبتها على تفريطها في حق الله تعالى.


4- معرفة كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته بعباده في أنه لم يجعل عقوبتهم عاجلة مع ما هم عليه من المعاصي والمخالفات.


5- رد الحقوق إلى أهلها، وسل السخائم، وحسن الخلق، وهذه من أعظم ثمرات محاسبة النفس.


أيها الأحباب... إذا كان أرباب الأعمال وأرباب الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم مراحل العملية الإدارية، فبدون هذه المراحل تكون المنشأة عرضة لفشل محقق، فما بالكم بهذا الإنسان المسكين الضعيف الذي يقطع مراحل حياته ليلقى ربه، فإما فوزاً ونجاة، وإما خسارة وعذاب.


فهل خلوت بنفسك - أخي الحبيب - يومًا فحاسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال والسلوكيات؟


وهل حاولت يومًا أن تَعُدّ سيئاتك كما تعد حسناتك؟


وكيف ستعرض على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟


وكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكاره والأخطار؟!


قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}(10).


كيفية المحاسبة...


إن محاسبة النفس لها طرائق متعددة، كل يجتهد في الطريقة الأنسب، ولا بد أن تكون المحاسبة كالتالي:


أولاً: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصًا تداركه.


ثانيًا: ثم المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.


ثالثًا: محاسبة النفس على حركات الجوارح مثل: كلام اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته.


رابعًا: محاسبة النفس على الغفلة وتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.


كما أن العلماء قسموا كيفية محاسبة النفس وطريقها إلى نوعين:


النوع الأول محاسبة قبل العمل: وهي أن يقف عند أوّل همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه، قال الحسن: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت ؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقّف"(11).


النوع الثاني المحاسبة بعد العمل: وهي على أقسام ثلاثة:


أ- محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم سؤال نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً ـ وأيّنا يسلم من ذلك؟ ـ فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة.


ب - القسم الثاني المحاسبة بعد العمل: بجلسة طويلة على ما اقترف من المعاصي والآثام، وبعد الجلسة الطويلة والمحاسبة الدقيقة ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تـلـك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال ـ سبحانه ـ: (إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيّئَـاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذاكِرِينَ)(12).


ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركُه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.


ـ جاء رجل يشكو أمراً إلى عمر - رضي الله عنه - وهو مشغول، فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: (إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه)(13).


ـ ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم ؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!)(14).


وقفة على الأوضاع المأساوية...


ومع بداية عام هجري جديد نأمل ونحن نودع هذا العام أن تعمل الأمة على توديع أوضاعها المأسوية ومعالجة جراحاتها المتعددة في جسدها، كما أن الواجب على أبناء الأمة وقادتها أن يكون لديهم الوعي الكامل والإدراك الشامل بمخاطر أعدائها ومخططاتهم.


فلنبادر أخي المسلم مع فجر هذا العام الجديد بالتوبة والإقبال على الله، فإن صحائفنا أمامنا بيضاء لم يكتب بعد فيها شيء...


فالله الله أن نسودها بالذنوب والمعاصي، ولنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب ولنكثر من ذكر الله عز وجل والاستغفار ولنحرص على رفقة صالحة تدلنا على الخير، جعل الله هذا العام عام خير على الإسلام والمسلمين وأطال أعمارنا ومد آجالنا في حسن طاعته والبعد عن معصيته وجعلنا ممن يتبوأ من الجنة غرفاً تجرى من تحتها الأنهار....


وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...