استعرت هذا العنوان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : "
يأتي على الناس زمان ، فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر " .رواه الترمذي .
ما أكثر العوائق التي تبعد المؤمن عن التمسك بدينه ، والمحافظة على سمو عقيدته ، وطهارة سلوكه في هذه الأيام !
يرى تلك المعوقات تعترضه في كل سبيل ، وتترصده في كل موطن ، وتتربص به في كل مكان ، وتحاصره من جميع الجهات .. إنْ فتح مذياعاً ، أو طالع جريدة ، أو قرأ مجلة ، أو انتقل من محطة إلى محطة في تلفاز ، أو عاشر صديقاً ، أو استمع إلى حديث صاحب ، أو طرق سمعه حوار ، أو ركب حافلة ، أو امتطى طائرة ، أو سافر من بلد لبلد ، ومن قطر لآخر .... فهو يسمع المخازي والمحرمات ، وتسد أذنيه مغيبة الناس ، فتسلق هذا ، وتغتاب ذاك ، وتملأ دروبه صور المحرمات ، والموبقات ، وكل ما يخالف أوامر الله ورسوله ، ويبعده عن الخلق الرفيع ..
ويحار فيما يفعل ، أيطير في الهواء ، أو يمشي على الماء ، أو يسد أذنيه ، أو يغمض عينيه ، أو يقيد رجليه ، أو يكتف يديه .. أو يبتعد إلى مدينة فاضلة طوبائية ، تحدث عنها الفلاسفة ، وصورها الشعراء والخياليون ؟
وقد يقول قائل : ولماذا يسكن المرء في هذه الأماكن الموبوءة ، ولماذا يعيش في مثل هذه المستنقعات الآسنة ، ولماذا يبقى في تلك المواطن التي لا يرضى عنها الله ورسوله .. وفي الأرض متسع ، وفي الدنيا بقـاع يتلألأ فيها النور ، وتزهو بمصابيح التقى والإيمان ؟
أجل ! على المؤمن أن يهاجر من كل مكان موبوء ، ومن كل ما يغضب الله ، ويسيء إلى الخلق الإيماني ، ولو كانت الهجرة من حي إلى حي ، ومن مدينة إلى مدينة ، ومن مجتمع إلى مجتمع .. إنْ استطاع إلى ذلك سبيلاً .
أقول : " إنْ استطاع إلى ذلك سبيلاً " وأَسْتَخْدِمُ حرف الشرط ( إنْ ) الذي يفيد عدم تحقق الفعل الذي يليه .. لأني واثق أنه لن يستطيع إلى ذلك سبيلاً .. فحياته .. وأمنه .. وأمانه .. ولقمة عيشه .. ارتبطت كلها بهذا الموطن ، وصار له فيه جذور ، وأغصان ، وفروع ، وامتدادات ..
الفساد يملأ في هذه الأيام كل الطرق ، والبلاد ، والأقطار .. من بيروت ، إلى دمشق ، إلى القاهرة ، إلى تونس الخضراء ، إلى المغرب الأقصى ، إلى دول الحليج ، إلى ..إلى .. وبعبارة موجزة .. من البحر إلى البحر ..
وإذا كان هذا في بلاد النور ، حيث المآذن ترتفع في كل الربوع والأقطار .. وتكاد تنافس عدد المصلين .. فكيف الحال في الغرب الأوربي أو الأمريكي ؟
إني لا أكاد أتصور ما يحدث في تلك البلاد ، ولا كيف يعيش أولئك العباد .. وأكاد أقول : إن الخيال أقصر من أن يصور المخازي والفساد وكل ما يبثـه الشيطان فيها ..
وإذا استثنينا الفئات المؤمنة في البلاد العربية والإسلامية ـ وهي كثيرة العدد ـ لا تزال على الحق ، تأتمر بما أمر الله ، وتنتهي عما نهى.. قائمة على الحق ، لا يضرها : آمن الناس أم كفروا .. صلحوا أم ضلوا .. فماذا نقول عن الذين يعيشون في تلك المدن الغربية ، وكل مفسدة عندهم أكبر من الخيال ؟
قدر لي أن أزور الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصيف بدعوة كريمة من أخ حبيب ، وأحاضر في مواطن شتى ،
وأزور عدداً من الولايات في مختلف جهاتها ..
لن أتحدث عن العمران فيها ، ولا عن ناطحات السحاب ، ولا عن المتاحف ، ولا عن المعارض ، ولا عن الطرقات الرائعة ، والمخططة ، والنظيفة ، ولا عن التقدم التكنولوجي ، والعلمي .. فتلك أمور يعرفها القاصي والداني ، وقد تكون معرفته بها أكثر مني ..
إنما أريد أن أتحدث عن شيء غريب ، لا يخطر على بال .. بل قد يقول قائل : هذا شيء عجاب ، ما سمعنا بهذا في حياتنا .
أعلن المغني ( سامي يوسف ) الأذربيجاني الأصل ، والأمريكي الجنسية ـ وهو محبوب جداً في الولايات المتحدة ـ أنه سيقيم حفلة غنائية ، في المسرح المجاور لمطار شيكاغو .. وتقاطر الناس يشترون بطاقات الحفلة ..
وفي اليوم المعين ابتدأ غناءه في الساعة السابعة مساء .. وراح يغني ويغني ، والناس يهزهم الطرب ، ويملؤهم الفرح والبهجة ..
وما إن حانت الساعة الثامنة حتى أعلن المؤذن في المذياع (الميكرفون ) أذان المغرب .. فسكت المطرب ، وسكت الناس .. وأقيمت الصلاة ، فوقف سامي يوسف إماماً ، واصطف خلفه ما يقرب من ألف رجل في جانب ، وألف امرأة في جانب آخر ..وكن جميعاً متحجبات حجاباً شرعياً ، تزهو به نساء مكة ذاتها .
الرائع في هذه الحفلة منظر النساء .. فهن عدا قيامهن للصلاة وراء الإمام .. يعني أنهن كن على وضوء .. والأمر الأعظم : أنهن جميعاً ممن صلين ، واللواتي لم يصلين .. كن متحجبات .
وهنا يخطر على البال منظر الناس في حفلات المرحومة السيدة أم كلثوم .. فأنت ترى في التلفاز كلاً منهم مصطحباً زوجته أو أخته .. ولكن ترى جميع النساء .. وهن ـ في الغالب من أرض الكنانة سافرات ، ليس على رأس أي منهن حجاب .. وهنا المفارقة بين حاضري الحفلتين .. النسوة المسلمات في الغرب الأمريكي .. وفي بلد الحرية والانفلات ... متحجبات ، أما في البلد المسلم .. فهن سافرات .. وبلا حجاب ..
لم أستغرب هذه الظاهرة في هذه الحفلة .. لأني لم أجد في أكثر الاجتماعات التي حضرتها .. سواء لإلقاء محاضرة ، أو لحضور اجتماع ، أو لدعوة ، أو وليمة ، أو لأي غرض آخر .. رجلاً واحداً حين يؤذن المغرب أو العشاء .. يستأذن سيد المنزل ، أو سواه .. للذهاب إلى الحمام ، ليجدد وضوءه .. وإنما كانوا جميعاً .. رجالاً ونساء .. يقفون وراء الإمام ، ويبدؤون الصلاة ..
ترى ما سبب هذا التناقض ، وبماذا تفسر هذه الظاهرة ؟ السفور والإصرار على عدم الحجاب في البلد المسلم ، والحجاب والاحتشام والاستتار في البلد الأمريكي ؟
أليس هذا التناقض من الأمور الطبيعية في الناس .. ألا يشبه هذا : الأواني المستطرقة التي تحدث عنها العلماء ؟ ألم يقولوا : إن الإناء الذي ينقص من جانب يعوض نقصه في جانب آخر ؟ وبعبارة أخرى : ما ظهر الجلباب الواسع الفضفاض الذي يغطي المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها ، ويجعلها تبالغ في التستر إلا يوم ظهـرت الملابس القصيرة لدى بعض النسوة ، وانكشفت عوراتهن وقسم كبير من أجسادهن ؟ وكن قبل هذه الظاهرة وسط في حجابهن وملابسهن .. لا إفراط فيها .. ولا تفريط ؟