المفطرات وأحكامها فصلٌ: ومن أدخل إلى جوفه أو مجوّف في جسده كدماغ وحلق شيئا من أي موضع كان غير إحليله أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه أو استقاء فقاء أو استمنى، أو باشر دون الفرج فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأمنى، أو نوى الإفطار أو حجم، أو احتجم عامدًا مختارًا ذاكرا لصومه أفطر لا إن فكر فأنزل أو دخل ماء مضمضة، أو استنشاق حلقه، ولو بالغ أو زاد على ثلاث.
ومن جامع في نهار رمضان بلا عذر شبق ونحوه فعليه القضاء والكفارة المطلقة، ولا كفارة عليها مع العذر كنوم وإكراه ونسيان وجهل وعليها القضاء، وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، فإن لم يجد سقطت.
السلام عليكم ورحمة الله بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لكن لما كان الأكل هو إدخال الطعام إلى الجوف تكلم الفقهاء على ما يلحق به، بالطعام أو الشراب إلى الجوف فقالوا: إن من أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان فإنه يفطر، إذا أدخله إلى جوفه فإنه يفطر بذلك؛ وذلك لأنه شبيه بالتغذي؛ لأن الغذاء هو إدخال الطعام إلى الجوف عن طريق الفم عادة أو عن طريق الأنف ونحو ذلك.
ألحقوا بذلك إذا أدخل إلى مجوف في جسده كدماغ وحلق يعني إذا مثلا جرح أو شج في رأسه فداوى الجرح، ودخل الدواء إلى دماغه في رأسه، فقد دخل إلى مجوف هذا الدواء فهل يفطر بذلك أم لا؟ هناك يعني أسباب ظاهرة يفطر بها، وأسباب مختلف فيها، وهذا من المختلَف فيه مداواة الجرح.
الذين قالوا: إنه يفطر؛ لأنه أدخل إلى مجوف وهو الدماغ؛ لأنه جوف الرأس. والذين قالوا: لا يفطر ولعله الأقرب أن هذا معالجة جرح، وأنه ليس غذاء، ولا يسمى آكلا ولا شاربا إذا أدخله إلى دماغه.
ثم قولهم: "أو حلق كدماغ وحلق" الحلق بلا شك أنه يوصل إلى الجوف؛ لأن الطعام يدخل عن طريق الحلق، عن طريق المريء الذي هو مدخل الطعام والشراب، فإذا وصل إلى حلقه فإنه يعتبر داخلا في جوفه فيفطر ولو بقطرة أو قطرات من ماء أو نحوه.
إذا أدخل إلى جوفه من أي موضع كان غير إحليله. الإحليل: هو مخرج البول يعني الثقب الذي في رأس الذكر، إذا أدخل منه شيئا، فإنه لا يفطر به لماذا؟ لأنه لا يصل إلى الجوف. البول الذي يخرج من الإحليل من هذا الثقب ليس من الجوف، وإنما هو من المثانة، والمثانة ليس لها منفذ، وإنما يدخل أو يأتي إليها البول عن طريق الرشح بمعنى أنه يجتمع البول في أسفل البطن ثم تمتصه هذه المثانة فيدخل إليها عن طريق الرشح، مثل رشح القربة التي في جوفها ماء وليس فيها خروق ولكن لابتلالها يرشح الماء من ظاهرها.
فعلى هذا لا يكون الإحليل منفذا. الثقب الذي في رأس الذكر لا يصير منفذا فإذا أدخل منه شيئا فليس داخلا إلى الجوف بخلاف ما إذا أدخل مع دبره مثلا.
أما الإدخال مع الأذن ففيه أيضا خلاف، وكذلك الإدخال مع العين، ذكر الأطباء أن في العين عرقا يتصل بالخياشيم؛ ولذلك إذا اكتحل في عينه فإنه يحس بأثر الكحل في خياشيمه، وكذلك إذا قطر في عينه قطرة حارة أو حامضة، أو مالحة أحس بطعمها، أو أحس بحرارتها في خياشيمه فتصل إلى الحلق. ولكن هل يسمي هذا أكلا أو شربا؟ لا يسمي آكلا ولا شاربا عن طريق العين.
وكذلك عن طريق الأذن، ومع ذلك فإن أكثر الفقهاء قالوا: إنه إذا أحس بطعم القطرات التي في عينه، أو في أذنه إذا أحس بها بخياشيمه أنه يفطر إذا كان متعمدًا، ورجح شيخ الإسلام أنه لا يفطر؛ لأنه ليس منفذا محسوسا للأكل والشرب، العين والأذن، بخلاف الفم والأنف، فإنه منفذا محسوسا.
معلوم أن الماء إذا دخل الخياشيم، إذا دخل مع المنخرين وصل إلى الجوف. فثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث لقيط:
وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما وذلك إذا ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه. النخامة تارة تخرج من الرئة من الجوف فتصل إلى حلقه فذا أخرجها فوصلت إلى لسانه ثم عاد وابتلعها فقد ابتلع شيئا له جرم فيفطر، وكذلك لو نزلت من رأسه ثم أخرجها عن طريق الفم فوصلت إلى فمه ثم أعاد ابتلاعها؛ لأنه ابتلع شيئا له جرم.
وكذلك القيء ورد فيه حديث صححه جمع من العلماء، ولو كان بعضهم قد ضعفه أنه عليه السلام قال:
من استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه فإذا استقاء متعمدا بأن أدخل يده في حلقه حتى انتدب الطعام أو الشراب من جوفه فعليه القضاء، فأما إذا غلبه القيء خرج قهريا فإنه معذور فلا قضاء عليه.
وكذلك إذا استمنى، إذا استمنى بيده وهو ما يسمى بالعادة السرية فإن هذا أيضا يقضي صاحبه؛ وذلك لأنه عالج شهوته بيده فيكون بذلك متسببا فيما هو شهوة والصائم يتجنب. قال في الحديث:
ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي كذلك إذا باشر فأمنى أو أمذى فالمباشرة مباشرة الزوجة، ولو من وراء ثوب أو من وراء إزار، فإذا باشرها فحضرت شهوته فأمنى أو أمذى يعني خرج منه مذي أو مني فإنه يعتبر قد فعل الشهوة فيكون عليه القضاء.
وكذلك إذا كرر النظر فأمنى. إذا كرر النظر إلى المرأة مثلا أو إلى صورة في أفلام أو نحو ذلك إذا حصل منه إمناء المني، فإنه عليه القضاء. واختلف في المذي، ولعل الأقرب أنه لا يقضي، إذا وقع منه المذي في نظر؛ وذلك لأن الكثير من الشباب الذين معهم قوة شهوة وغلبة يحصل من أحدهم المذي، خروج المذي بمجرد نظرة، أو بمجرد فكر، أو بمجرد رؤية مما يثير الشهوة فيشق عليهم التحكم من ذلك. فأما إذا خرج منه المني الذي هو يخرج دفقا بلذة والذي يكون لونه أصفر بخلاف المذي الذي هو رقيق أبيض معروف. هذه مفطرات.
يفطر أيضا بالنية، ولو لم يتناول شيئا إذا نوى الإفطار. نوى قطع الصيام في النهار، وعزم على أن يفطر، ولو لم يتناول ثم عزم على أن يتم بطل صومه؛ لأن الصيام نية فإذا نوى، أي: تركه، بطل الصوم.
أو حجم أو احتجم، ففيها خلاف، الحجامة فيها خلاف طويل، فأكثر الأئمة لا يرون الفطر بالحجامة، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يفطر بها؛ وذلك لكثرة الأحاديث التي رويت.
فقد ذكر بعض العلماء أنه رواه أحد عشر صحابيا فيها إفطار الحاجم والمحجوم، وأوصلها بعضهم إلى سبعة عشر صحابيا رووا حديث
أفطر الحاجم والمحجوم وتلك الأحاديث لا تخلوا من +عظات+ في بعضها. ذكر الإمام أحمد منها عدة أحاديث صحيحة كحديث شداد وحديث ثوبان؛ لأنها معتبرة وصحيحة، فالإمام أحمد ذهب إلى أنه يفطر بالحجامة. الحاجم والمحتجم عملا بهذا الحديث.
ولكن الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: إن ذكر الصيام خطأ من الرواة، أو من بعضهم أن أصحاب ابن عباس الملازمين له لم يذكروا فيه الصيام، وإنما ذكروا فيه الإحرام. وبكل حال الاحتياط أنه يفطر ويقضي، أنه يقضي إذا احتجم، وكان كثير من الصحابة يؤخرون الحجامة إلى الليل، إذا أراد أن يحتجم أخَّر حجامته إلى الليل.
وذلك دليل على اعتبارهم أنها من المفطرات والذين قالوا: إنها لا تفطر، إن قالوا إنما الفطر بما أدخله لا بما أخرجه. والدم إنما هو شيء يخرج من الإنسان.
والجواب أن الفطر قد يكون أيضا بما يخرج كفطر الحائض بدم الحيض مع أنه شيء خارج، ومع ذلك لا يصح صومها، وليس لها عذر إلا هذا الخارج، فكذلك أيضا إخراج الدم لهذا السبب الذي هو الحجامة ويلحق بها أيضا جميع أنواع إخراج الدم منها ما يسمى بالفصد.
الفصد أيضا يخرج منه دم كثير، والشرط وما أشبهه، وكذلك في هذه الأزمنة ما يسمي باستخراج بإخراج الدم للتبرع، إذا أخرج دما كثيرًا للتبرع لمريض ونحوه ألحق بالحجامة، وكذلك إذا أخرج دما كثيرًا للتحليل، أما إذا كان يسيرا فلا يلحق بالحجامة.
الذي يؤخذ للتحليل عادة أنه شيء يسير يمكن أن يقدر بأنه قدر أقل من فنجان الشاي، فإذا كان أقل من ذلك فإنه لا يعتبر ملحقا بالحجامة.
فطر الحاجم؛ لأنه كان يمتص الدم. كانت المحجمة مثل الكعب ولها طرف دقيق فيلصقها بالبشرة بعدما يجرحها ثم إذا جرحها جروحا يخرج منها الدم امتص الهواء الذي فيها في داخلها، ومع امتصاصه يخرج منه دم فيختلط بريقه فيكون ذلك سببًا في إفطاره، حيث إنه لا بد أن يختلط بريقه ولو مَجَّهُ.
وأما فطر المحجوم فإنه بإخراج هذا الدم. في هذه الأزمنة يوجد حجامة بدون امتصاص يعني كالإبر مثلا التي يستخرج بها الدم أو آلة تمسك بدون أن يمصها فلذلك نقول: إذا احتاج إنسان إلى حجامة لمرض أو نحوه، فالحاجم إذا لم يمتص المحجمة، فلا قضاء عليه.
اشترطوا في هذه الأشياء كلها، يعني: في إدخال شيء إلى جوفه أو في ابتلاع النخامة أو القيء أو الاستمناء أو المباشرة، أو تكرير النظر أو الحجامة، اشترطوا فيها أن يكون عامدًا فإذا كان ناسيا أو مخطئًا فلا.
الشرط الثاني: أن يكون مختارًا بخلاف ما إذا كان مكرها يعني قد أدخل إلى جوفه قهرًا عليه كالمريض مثلا المغمى عليه. كذلك لا بد أن يكون متذكرًا لصومه ذاكرًا لصومه، وفي زماننا هذا توجد الإبر فهل يفطر بها أم لا؟ كان مشايخنا الأولون يمنعون منها فكان المرضى إنما يعالجون في الليل، يضربون الإبر في الليل، يعني عهدنا ذلك من سنة أربع وسبعين إلى خمس وتسعين، وهم لا يضربون أحدًا بالإبر إلا في الليل أيا كانوا فيمنعون منها، كالشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- والشيخ عبد الله بن حميد، وكذلك حتى الشيخ ابن باز كان يمنع منها أصلا لكن كثرت الشكايات وكثر رفع الأطباء أنها إبر لا يحصل منها وصول إلى الجوف، وإنما هي إبر موضعية.
فلذلك رخصوا في الإبر إلا أن تكون مما يصل إلى الجوف كالإبر التي في الوريد في العروق تنتشر بسرعة، وكذلك إبر التغذية والتقوية، فأما التي في طرف البدن أو في طرف الجلد لتهدئة أو نحوها، فرخصوا فيها بعد ذلك. ذكروا بعد ذلك ما لا يفطر فمثلا إذا فكر يعني تصور المرأة مثلا تصور امرأة، وفكر فيها فثارت شهوته فأنزل فهذا شيء قهري فلا يفطر، كذلك إذا طار إلى حلقه ذباب أو غبار غير متعمد فلا يفطر.
كذلك إذا تمضمض أو استنشق، ومع ذلك دخل شيء من ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى حلقه غير متعمد فلا يفطر، مع أنه منهي عن المبالغة، ولكن لو قُدِّرَ أنه بالغ أو قدر أنه زاد على ثلاث في المضمضة، أو في الاستنشاق فدخل إلى جوفه أو أحس بطعمه فابتلعه فلا يفطر بذلك؛ لأن المضمضة مأمور بها شرعا.
انتهى مما يتعلق بالمفطرات، ذكر من المفطرات الوطء، الجماع. إذا جامع في رمضان نهارًا بلا عذر فعليه القضاء والكفارة لا بد يعني أن يكون نهارًا، وأن يكون ذاكرا، وأن يكون بلا عذر، كأنه إذا مثلا غلبه الشباب الذي هو شدة الشهوة، ولم يستطع أن يتمالك نفسه ففي هذه الحال ليس عليه إلا القضاء. فأما إذا كان يقدر أن يملك نفسه، ولو مع وجود الشهوة، فإن عليه القضاء والكفارة.
ثم لا بد أن يكون الذي تجب فيه الكفارة هو الوطء الحقيقي الذي يوجب الحد في الزنا مثلا، ويوجب الغسل في الجماع، ولو لم يحصل إنزال فهو الذي يحصل به أو تجب به الكفارة.
الكفارة: هي مثل كفارة الظهار على الترتيب عتق رقبة، والصحيح أنه لا بد أن تكون مؤمنة؛ لأن الله اشترط الإيمان في كفارة القتل، وأطلق في كفارة الظهار فيحمل المُطْلَق على المُقَيَّد. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين أي: فله أن يصوم شهرين متتابعين بصفته عامدًا، يعني ولكنه لم يجد، أو لم يقدر على العتق، لا بد من التتابع
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لكل مسكين مُدّ بُر أو نصف صاع من شعير أو غيره، وقيل: بل نصف صاع من الجميع من الأرز أو من البر أو نحوه وهو الأحرى، فإن عجز سقطت، إذا لم يجد هذا كله، استدلوا بقصة ذلك الهالك الذي قال: هلكت وقطع على أهله رمضان.
أما المرأة فاختُلف في الكفارة عليها، فإن كانت معذورة كالنوم، ووطئها وهي نائمة أو أكرهها وقهرها، أو كانت ناسية، أو جاهلة فلا كفارة عليها، وإن كانت مطاوعة مختارة وعالمة ومتعمدة وعارفة بالحكم فعليها مثله، كفارة مثله، القضاء يلزمها معه. قضاء ذلك اليوم الذي أفسده. هذه هي المفطرات.
اللي بعدي يوصفلنا ليلة القدر